رواية جلمد

القصة القصيرة “جلمد”
بقلم/خلود عاشور
جلمد
قصة_قصيرة
كنت وقتها أهرول أسفل المطر مع أصدقائي وأنا ابن العاشرة، والشوارع مخضبة بالطين اللزج ، أًفلتت قدماها أسفل المطر، بلا تفكير مددت يدي أساعدها، استحت ولم تتلقف يدي، قامت وكانت ملابسها بلون الطين تخضبت، راحت تبكي بحرقة وحرج كبير.
هرولت تجاه بيتها ودموعها تغسل وجهها المُخضب بلون الطين.
صادفتها وأنا ابن السابعة عشر، وقد التف جسدها بخمار طويل، وأسفله عباءة تفوقه وسعًا.
كانت تداهمني الرغبة الجارفة في الحديث معها، لست أنا اللعوب الماجن، فمعرفتي جيدًا سيحين وقتها فيما بعد، ولكن لم أرد الحديث معها لمجون، ولكن الرغبة جارفة تجاه حديثها، وهي شديدة، بعيدة المنال.
فظللت عالقًا بين رغبتي، وبين صعوبة نيلها.
تكررت الرؤية بيننا كثيرًا، أو بالأحرى من جهة أنا فقط، ربما هي لم تعي لنظراتي، وتَمعني… لست الملتزم لغض البصر، ولكن أيضًا لست الماجن لإطلاقه في الفتيات.
فأنا ولد وحيد، ولي ست فتيات أخاف عليهن من نسمات الهواء، فأخاف الله فيهن، وضف على هذا أنني صعيدي، وليس أي صعيدي، ولكن تربية جبلية صعبة، تَربِيتها على يد أخوالي منذ ميلادي، أخذوني رضيع من أحضان أمي التي ظلت تدعو بي مع كل فتاة تلدها، وحينما حملت بصبي، مات زوجها، فتولى أخوالي تربيتي، فلا يصح الحامل لاسم العائلة أن تُربيه النساء… هكذا كانت عادتنا…… ولكنها… ولكنها كانت حالة خاصة، معها يتلاشى كل شئ ؛ المخطط والعابر في البال… وربما المُربى فيِّ منذ الصغر.
أتدري تلك اللحظات التي يمنحها لك القدر لتعش ما تود عيشه أنت بحياتك بشخصيتك!- المدفونة من قبلهم بحجة أنك رجل، ولك مسؤولية واجب تحملها – كانت تلك اللحظات تمنحها لي برؤيتها، حاولت كثيرًا عدم الانجراف في التعلق الواهي بها، فأنا لا أعرف عنها سوى شكلها فقط، لا اسمها، ولا أهلها، وربما بلدتها- في ذلك الحين-، ولكن ذاك التعلق كان دليلي الوحيد أن لي رأي بحياتي، وتمني، فتركت نفسي تنجرف.
تعال هنا لأعرفك بأهم مُنحنى بحياتي، ففي كل حياة فرد ثنايا يُخبء بها الغث والثمين.
مات خالي الأكبر، الذي تولى تربيتي الجبلية لذاك اليوم، بعد إنتهاء مراسم الدفن والجنارة والعزاء، اجتمع بي أخوالي، وأخذوا يبثون في نفسي ما لم أتخيله يومًا … خالي المعلم الفاضل، صديق المسجد، رفيق الصوم، كان يدير عملنا وعملهم، ويدربني جيدًا بقسوة تربيتهم ، على ما يعُدني إليه.
تخيل ماذا كان عملنا؟!
اطلق لخيالك السئ، والقذر.. اطلق العنان ولا تربطه بقيد شعرة ضعيفة.
تجارة عملات، سلاح، مخدرات، أعضاء، أطفال…. نساء بزواج وبدون زواج.
أنا الخائف من النظرة لأحداهن، مخافة أن ترد في عرض أخواتي، كان عملنا ومصدر رزقنا، وسؤددنا بين الصعيد والبدو، التجارة بأعراض النساء، القذر من الأعمال.
بالطبع لم يسعُني الاعتراض، فإما الإكمال أو الموت جوعًا وشماتة لي وللعائلة أخوالي وأسرتي، ولأنني الرجل الوحيد الشاب المُربي كما ينبغي للعمل بالعائلة، سايرت العمل رغمًا عني.
بداية كنت في نزاع مع نفسي، وشتات عظيم، ثم بدأ الإنسان بداخلي يخفض صوته، ثم اختفى، ثم نُفى عن بكرة أبيه، لم يعد له وجود.
أصبحت جلمد، بل وأصلب، فإن منه لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منه لما يسجد من خشية الله، ولكن كنت أنا أشد صلابة منه.
كانت هي الشئ الوحيد الذي يعيد للحياة، يُشعرني أني من طين وماء، أنا قلبي يخض دمًا، وليس حجر، أنا عقلي يفكر كبقية البشر، وليس يبث سمًا من الأفكار كما يقولون لي.
إن كنت قبل موت خالي انجرفت في التعلق بها ذرعًا، أصبح باعًا، وإن كان قيراطًا، أصبح فدانًا.
أصبحت الرغبة لا تُحمل، ولعلمي بها جيدًا بصعوبة الوصول إليها بلا رسمية، تقدمت لأبيها.
هي؛
نوران ابنة عامل في وزارة الأوقاف، الأخيرة بأخواتها… الصبيان والبنات.
هم خمسة جميعهم مجتهدون، رغم انخفاض مستواهم المادي، لكنهم جميعهم متفوقون.
هي طيبة بشرية- على اعتبار ما سيكون- بعامها الثاني، تصغرني بستة أشهر، وتليني بالعام الدراسي .
هي أصغر أخواتها ، المدللة لوالديها.
تلك العائلة تتوج بخلقها العالي، ومنصبها العلمي في كليات القمة عامة.
لا شك لدي أنني نحجت في لفت انتباهها، ولكنها ظلت ذات العسيرة الصعبة، بعيدة المنال، ولكني لم أتاونَ يومًا في لفت انتباهها، ليس رغبة في جرها لما لم تعتاده يومًا، ولكن لجعل للقبول منها سبيل إذا طرقنا الباب حلالًا.
كنت قد التحقت بالهندسة قسم بترول بجهدي الخاص.
طالبت خالي بالتقدم لأبيها، فرفض رفض قاطع، ولكني لم أَبَه، فقد تحررت منهم، وأصبحت أسوقهم كالقطيع، فهم من جعلوني هكذا ؛ عيب أن تهتم لمصلحة أحد… مصلحتك فقط ..فكانوا أول من طُبق عليهم هذا، أرغمته بأسالبيهم، وما علموني إياه على ما أود، دون الالتفاف لقولهم: ليسوا من مستوانا المادي.
اللعنة عليكم! وهل يصعب المرء تحصيل المال من طرقكم، ولكن يحول بينهم وبينه، ما قتلت بداخلي… يحول كونهم بشر ذوي ضمائر.
شاهد:رواية المراهق – دوستويفسكي
كنت متوقع… وبالفعل حدث، رفضني أباها بحجج واهية .
ترفعت بدافع الكرامة، ولكن قلبي كان يعتصر، ترك نفسي في الانجراف في طيات موجات التعلق بها، أوصلتني لعمق بحر عشقها، فغرقت بها قبل الحديث.
بلغني أنها تريدني، فكانت أول فرحة تمس قلبي، لتشعره أنه على قيد حياتي لازال يُحسب، أقسمت في قرارة نفسي إن لم يوافق أباها لاقتلعتها منها، وتزوجتها رغمًا عنه.
وأمام كثرة محاولاتي، وافق أباه على الجلوس معي لمعرفة سر إصراري عليها دون غيرها.
ولكن العجب قوله مباشرة: إن كنت تريد الزواج منها، فعليك بالقرآن الكريم كاملًا بالتجويد مفسرًا، اجتياز أربع سنين علم شرعي، إن شئت ابيت فتخرج ولا تُعيد طلبك، وإن قبلت فعليك الوفاء بما قلته بالحرف الواحد.
بثقة قلت: كم المدة المتاحة؟
لك ما شئت… عام… اثنان… ألف.
عام.
رفع حاجباه، وعلى خده ترتسم ابتسامة إعجاب.
عدت القول: عام واحد يكفيني، ولكن يا حبذا إن عُجل بالزواج.
لوح برأسه يرفض قولي، وهو يحتسي قهوته، ثم وضعها وقال: حينما تعود لي بعد ما حددت من المدة، سيختبرك أزواج بناتي فيهم، ثم تتم الخطبة
رفعت عيني له استفهم، فأكمل حينما تنهي دراسة العلم الشرعي ستعرف هذا.
مرت الأيام، وبالفعل رغبة فيها، أوفيت بوعدي، رغم الصعوبة وضيق الوقت، إلا أنني صممت على التمام الكامل للوعد.
لكن المزعج في الأمر أن الإنسان بداخلي بدأ يتثاوب، وهذا يعني الألم النفسي، فمثلي لا يصح له هذا، حاولت التجاهل، والإقناع تارة، أن تلك ظروف فُرضت ولا سبيل لغير ذلك .
انقضت المدة، واختبرني زوجا أختيها.
لم يتجاوز العلم الشرعي، والقرآن مفسرًا لساني، لم يؤثر في سوى هذا.
فرض أباها ثلاث سنوات خطبة شرعية، لا حديث فيها ولا خلوة.
كان قلبي يحتجه الخوف تارة، القلق تارة أخرى… ولم يشعر بهذا إلا معها، فلم يكن هناك قلب يشعر إلا معها… القلق من الكشف عن مهنتنا، الخوف من فقدانها.
مرت بسلام وعقد القرآن والزفاف في نفس اليوم.
ولأني الابن الوحيد، كانت الغيرة على أشدها بين أمي وأخواتي وبينها، ولكنها كانت بحق تخشى الله، كلما هبت رياح الغيرة، وهممت أنا بالتدخل، حجبتني تعلل أنهم أهلي وواجبها الإصلاح وتقوية الأواصر، وليس العكس، عسعت لتحسين العلاقة بيني وبين أمي أخواتي، كانت قبل الزواج عادية، ولكنها جعلت حميمة متقاربة بعد الزواج بيننا.
ظللنا سبع سنوات متزوجين لا يشوب حياتنا شئ، أنجبنا ثلاث صبيان، تولت امهم تعليمهم القرآن والدين، أما أنا فأشفقت عليهم من عملي، وأيضّا خشيت أن تعرف امهم ماذا يكون عملي.
نوران وأولادي مكان لم أود تلويثه يومًا ما، اللحظات التي أقضيها معهم كانت هي لحظات كوني إنسان ليس جلمد.
كان البيت هو ملاذي الوحيد بالعالم المفروض علي.
نوران كانت خير زوجة بحق، حكيمة، عاقلة، وأم جيدة، وحبيبة وفية.
كنت أعشقها حد الجنون، وهي كانت تزيد حبي لها كل يوم رغمًا عني، كان لايهمني في العالم سوى الحفاظ على هذا البيت، ولكن دوما الرياح تأتي بما لا تشتهي الأنفس.
استقيظت ذات يوم منتصف الليل، ولم تجدني بجوارها، وكان هذا من المعتاد، ولكنها لم تفعل المعتاد، ارتدت ملابسها، ونزلت الدرج تبحث عني بالبيت.
كنت…. كنت أعقد أكبر صفقات السلاح بحياتي.
وقفت تستمع، ثم أظهرت نفسها لي، تلاقت أعيننا، ترقرت الدموع في مقلتياها، وانسحبت.
تلك النظرة لن أنساها ما حييت.
لم تترك البيت، ولكن كل ما بالبيت من طعام وملابس وخزين أطعمة، وطافت على المساكين توزعهم.
كان راتبها يكفي لاستبدال هذا.
قاطعتني، وأبت الحديث معي مطلقا.
كنت أعلم أن الصدمة أوجعتها، وهذا رد فعلها.
رفضت كل مال يأتي من جهتي للأولادي، لم أعارضها، ولكن كان انسحاب وثير السجاد الدافئ للبيت، والشعور بالأمان، وأنك إنسان من أسفل قدمي يوجعني… لأول مرة أشعر بالوجع بحق.
وحينما سئمت من التجاهل والرسمية بيننا والجفاء، أرغمتها على الحديث، فأبيت، وحين إصراري طلبت الطلاق، والفراق مطلقا.
بالطبع رفضت بحجة الاولاد، ولكن في حقيقة أنها الركن الوحيد الحاني بحياتي، لا استطيع بتره ولا الاستغناء عنه.
طال الهجر، وزاد العذاب.
نحن لم نكن زوجان فقط، كنا أقرب من الأصدقاء، كانت جُل حياتي، فالطلاق لا يعني انتهاء الزواج، ولكن انتهاء حياة شعرت بها أني إنسان.
استمر الحال شهور، لا تقبل مني مال للنفقة على الأولاد ولا البيت، سئمت من هذا.
زاد بيننا الخلاف، هذا الذي كان يختصر في عناق، أصبح لا يهدأه شئ.
استمرت الأيام والبيت شعلة نار.
استقيظت صباحًا ووقفت أمامي، وفي عيناها الدموع، انتفض قلب بين أضلعي حَزْنًا.
فتحت ذراعيها، ولم تتفوه بحرف.
نَحى عقلي الخلافات، وما دار بيننا تلك الأشهر، وهرولت إليه كطفل جائع لإطعام أمه.
أحكمت احتضناني، وهمست: لن أتركك لهم، ما دام قلبي ينبض بالحياة، تلك ظروف فُرضت عليك، ولا يد لك فيها، ستغيرها رغمًا عنهم، والله لنا معين… إلا المال الحرام لن أقبل أن يُربي به أولادي ” كل ما نبت من سُحت فالنار أولى به ” ولن أتركك لهم، سنخرج من ضيق المعصية لأوج الطاعة، والله لن يتركنا أبدًا.
الآن أنا بمكة أهدى لها الحج الثالث، بعد موتها بعد رحلة طالت مدته، أزازتني، وساندتني حتى تركت كل معصية لله، وانطلقت اطرق أبواب الخير جميعها، والطاعة كلها، والرزق الحلال.
فاظفر بذات الدين تربت يداك.